ترسبات التوحيد في العقائد الطوطمية
من وحدانية الله الى تعدد الالهة
بقلم: كرايس الجيلالي – الجزائر
درسنا في الجامعة الاشكال الاولى للحياة الدينية ، ونقل الينا اساتذتنا ، كما نقل اليهم هم ، وفي نوع من الاستسلام الكلي والمرضي ، للإنتاج الغربي ، ان الاسنان ظهر على السطح الارض ، وليس له عقيدة او دين ، انا لا اريد ان اذهب الى ترهات داروين وعبثية اسلاف الانسان ، الذين لهم اسلاف من القردة ، لكنني اعود فقط الى فكرة ظهور الدين ، حيث يرى الجميع دون ان يرى ، ان الانسان وجد بلا دين ، اي لا انتماء عقدي له ، وثم وتحت ضغوطات الطبيعة ، التي لم يستطع التغلب عليها ، حاول ان يخترع إلها ، يستطيع ان يحتمي به ، من الاشياء والظواهر الطبيعية ، التي تفوقه قوة ، وتخيفه ، وتمارس عليه اكراهات عديدة ، تلك الظواهر التي كانت طبيعية في البداية ، ثم اكتشف هذا الانسان ايضا ، ان ارواح الموتى التي تزوره في منامه ، هي ايضا ، بعد الموت ، تتحول الى قوى خارقة ، وحارسة للطبيعة وللإنسان ، ثم اشار جملة من الباحثين الغربيين ، الى كيفية تشكل الدين ، رابطين بين القوى الطبيعية الخارقة ، وروح الاسلاف ، التي تهيم في الكون ، فتنتقم ممن يؤذيها ، وتعين من يحبوها ، وادعى البعض منهم ، مثل اميل دورايكم ، وفرويد وغيرهم.
ان الاشكال الاولى للدين ظهرت في المجتمعات الاسترالية القديمة ، وزعموا ان قطيعا من البشر ، يحكمه ذكر مسيطر ، كان يمنع ابنائه واحفاده من التواصل الجنسي مع الإناث ، فسئم ذكور القبيلة اليافعين ، من تصرف الاب ، فقتلوه ، من اجل ان يكون حق التواصل الجنسي حقا عاما ، وليس خاصا ، لكن سرعان ما ندم الابناء ، على خطيئة قتل الاب ، فقدسوا روحه ، واتخذوا لها طوطما ، او رمزا ، وصار يحظى بالاحترام والتبجيل لكن دون ان يعبد.
نعم هكذا نشا الدين حسب المدارس الغربية ، لكن هناك نظرة دينية ، خاصة لدى المسلمين ، تحمل تصورا مغايرا تماما لما يتحدث عنه الطوطميون والاحيائيون والارواحيون وغيرهم ، حيث يعتقد المسلمون ان الدين رافق ظهور الانسان ، و ان الانسان لم يكن ابدا بدائيا ، ولم يتطور ، ولم يعش ابدا لحظة نزوله الى الارض ، على شكل قطيع ، اقرب للحيوان من الانسان ، بل ان النظرة الاسلامية ، تقدم تفسيرات اكثر عقلانية مما يقدمه دعاة العقل ، وممجدو المنطق ، ومن هنا نطرح بعض التساؤلات: كيف نشا الدين حسب الفهم الغربي؟ وهل حقا هناك مبررات علمية ، للادعاءات الغربية ، بان الدين بدا عفويا وارضيا ، ثم انتهى به الامر سماويا؟ وكيف يشرح الدين الاسلامي نشأة الدين؟ وانتقاله من الوحدانية الى التعددية؟
اصل الدين والحاجة الى الاله:
يجمع الباحثون على اهمية الدين في حياة المجتمعات البشرية ، وحاجة الانسان الى القوى الغبية والميتافيزيقية ، تفوقه وتتفوق عليه بمسافات خرافية ، من القدرة والقوة ، ويمكنها ان تساعده ، ويمكنها ان تأذيه ، ويرون ان الانسان وجد بلا دين ، لكنه اخترع الدين حتى يشعر بالأمان ، فيجب ان تكون هناك قوة خفية عظيمة وخارقة ، وأسطورية ، لا يدركها ولا يفهمها ، لكنها موجودة ، وهو يتقرب منها لكي يشعر بالأمان ، ولكي يامن قوى الطبيعة الشريرة ، التي تريد ان تأذيه ، حيث ان لا انسان دون فكرة المقدس ، المتعالي ، المختلف والمتفرد في طبيعته وكينونته ، وهذا ما يجمع عليه حتى المنكرون للدين وللإله ، ويعتبرون الدين مجرد ايدلوجيا ، يخترعها الناس ، حتى يكون للحياة معنى.
فالدين حسب الملوعين بالفكر الدارويني ، هو حالة معقدة وظاهرة تطورية كغيرها من الظواهر الاخرى ، اي ظهر الانسان وهو لا يعرف اي شيء عن فكرة خالق ومخلوق ، عبد ومعبود ، بل هم ينفون اصلا فكرة الخلق ، ولذلك قدموا الانسان على الله ، وقدموا الثقافة على الدين ، واجمعوا على ان تركيز الثقافة وتعميمها وتنظيما ، وتحويلها الى طقوس وعادات ، لها مواقيت زمانية ومكانية ، يجعلها ترتقي الى طقوس وشعائر دينية ، فمثلا الطوطم الذي هو روح ، او كائن حي ، أو قوة خفية ، ما هو الا بحث عن حل لحالة من الخوف ، من كائن غريب ، حوله الانسان مع مرور الزمن الى رمز للقوة ، وحتى يتجنب تلك القوة في طابعها الشرير ، اخترع لها طقوس التقرب ، وجعل لها محرمات تسبب الغضب وتهيج القوى الخفية ، وتجعلها تنتقم من الانسان ، ولذلك سن نظام الكفارات ، وتقديم الاضاحي والقرابين ، لطلب الصفح والمغفرة ، وهنا تصبح حاجة الانسان الى الدين ، وفكرة الاله ، كحاجته للطعام والشراب ، كونها تضفي معنى على حياته ، وتوفر له مسألة الامن الروحي والامن المادي.
النظريات الغربية ، الطوطم اولا والله ثانيا:
النظريات الغربية مؤدلجة وتحمل نظرة استعلائية ، وتنظر بنظرة دونية اتجاه المجتمعات غير الاوربية ، او الحديثة بالمعايير الغربية ، خاصة الدراسات الانثروبولوجية ، والدينية ، التي تقوم على فكرة مركزاوية الثقافة الاوربية ، وتدرج باقي الحضرات حولها ، وهي ايضا مؤدلجة لأنها تدعي عقلانيتها ونكرنها للدين ، وللرسلات السماوية ، فنجدها تفسر الديانات والعقائد ، على انا معطى بشري ، ومن اختراع الانسان ، وتصفها على انها متعلقة بطقوس السحر والشعوذة ، وتنفي اي تواصل بين الارض والسماء ، لكنها تتقبل افكار غارقة في الخرافة ، من قبيل الديانة الطوطمية ، وكيف تشكلت ، وكيف عبد الانسان الارواح ، والكائنات الحية ، لكنها تنحرف عن علمانيتها ونجدها تقودنا بسذاجة ، ومن خلال نظرية التطور ، الى ان الدين بدا بسيطا وان فكرة الاله بدأت متعددة ، ثم راحت تتعقد شيء فشيء ، الى ان توصلت الى فكرة التوحيد ، وفكرة الاله الواحد ، لكن المتمعن فيها يجد انها قد حرقت المراحل ، وعبثت بالزمان والمكان ، ونسجت اساطير وأباطيل ، من اجل ان تربط بين تطور الانسان ، من شكله البدائي ، المتطور عن اسلاف يشبهون القردة ، الى الانسان العاقل ، الغربي بطبيعة الحل ، ثم الانسان الراقي ، حيث تختصر فكرة الرقي في الجنس الاري والانغلوسكسوني ، وتقصي بقية الاجناس ، كما انها تنفي كل الانبياء والرسالات السماوية ، وتحافظ على الانسان البدائي ، والديانات الوثنية والطوطوية ومختلف الاشكال ، الى ان تصل الى عيسى عليه السلام ، وتجعل من مولده لحظة تاريخية فارقة وحاسمة ، وفيها حدثت نقل نوعية للحضارة الغربية المسيحية ، التي يصورنها على انها الحضارة التوحدية الاولى في العالم ، وللأسف نحن كمسلمين وباحثين مسلمين ، مستسلمون لهذه الفكرة ، وندرسها في الجامعات ، ونقر بان الانسان بدا وثنيا وجاهلا ، وعبد كل شيء ، الى ان تدخل يسوع المسيح ، وعلم البشر التوحيد ، واصطفى الحضارة الغربية لتقود البشرية نحو الخير والعلم ، والازدهار ، وبذلك ترسخت لدينا فكرة ان الانسان بدا جاهلا وغير عارف بالله ، ثم اخترع العديد من الالهة ، الى ان تدخل الله وارسل ابنه ليعلم البشرية التوحيد ، فمن قبل النصرانية والتثليث هو الموحد ، والباقي كله على عقيدة الطوطم والاوثان وغيرها.
الفهم الاسلامي ، الله اولا والطوطم ثانيا:
يخبرنا النص القرآني ، والاسلام عموما ، ان الله خلق ادم بيده ، وانزله الى الارض وهو يعرف كل شيء ، وهذا ما اثبته ادم بنفسه لما اختبره ربه ، امام الملائكة ، فهل يعقل ان ينزل ادم وهو يرعف الاشياء كلها ، ولا يعرف ربه ومن خلقه؟ ولا يعرف التوحيد ، ويعيش هائما في الارض يخاف من البرق والرعد ، ومن ارواح الاسلاف ، وكيف يخلق الله انسانا عاقلا ليكلفه بعمارة الارض وعبادته ، ثم يتركه بلا عقيدة وبلا دين؟ المشكلة ان هذه الحقائق الموجودة في النص القرآني ، وفي الاحاديث النبوية ، وهي اكثر عقلانية من خرفات الطوطم ، واساطير الارواحين والوثنين ، لكن المشكلة ان العقل الاسلامي الباحث ، والمدعي للتنوير ، وتحت تأثير الانبهار بالغرب ، نجده يكذب كلام رب العالمين ، ويعتبره مجرد معرف دينية لم ترقى بعد الى مستوى المعرفة العلمية ، ويعتبر كلام الانثروبولوجين والفلاسفة المشحونين بالايدلوجيا والاطروحات المتنافية مع العقل ، كلاما علميا وعقليا ، وتم التوصل اليه بطريقة علمية منظمة ،
وهنا نجد النص القرآني ومن خلال ما حدث مع قوم نوح عليه السلام ، يشير بوضوح الى بداية الطوطمية ، التي لم تكن مع فجر الانسان ، الذي كان عاقلا وموحدا وعارفا بالله وبالتوحيد ، لكنها ظهرت مع انحراف الانسان ، وتشوش عقيدته ، وظهور فكرة الوسيط بين الله والانسان ، والصلحاء وغيرها من مظاهر التعدد في فكرة الله ، اي ان الانسان خلق موحدا عارفا بالله ، وثم جهل وانحرف ، واتخذ اشكال اخرى وعجز عقله عن فهم الله ، كقوة متسامية ومتعالية ، فحاول تبسيطها ، فوقع في تعقيدها ، وبدل بساطة الخالق الواحد ، ركن الى سذاجة تعدد المعبودات أو الوسطاء ، ورغم ذلك بقي وفيا لفكرة الخالق الواحد ، والاله الاعظم ، كما انه نقل فكرة الله من العالم المعنوي الى العام المادي الحسي ، ومنذ تلك الفترة اتسعت فكرة الانحراف العقدي ، وتعددت المعبودات ، وتعددت الطقوس ، لكنها حافظة على اصل واحد ، وهو التقرب من الله ، او من القوة التي نحتاج ، الى ان تقرب اليها ، كونها تفوقنا قوة وتختلف عنا اختلاف كلي ، وبذلك الدين بدا بسيطا واضحا ، وانتهى معقدا ساذجا ، بسبب جهل الانسان وليس تعلمه ، وهنا بقيت العناية الالاهية تتدخل في كل مرة لتصويب العقائد وتذكير الانسان بفكرة التوحيد.
الطقوس والشعائر الدينية – وحدانية الاصل وتعدد في الممارسة:
ان المتتبع للعقائد الدينية على اختلافها ، يجدها تتسم بجملة من الاصول التي لا يمكن الا ان تكون نابعة من اصل واحد ، الصلاة الحج ، الزكاة الصوم ، التضحية ، المحرمات والمباحات ، الاعياد ، واهم شيء فكرة الله ، والقوة التي تتجاوز كل القوى ، هي مؤشرات توحي بالتوحيد ولا توحي بالتعدد ، كونها موجودة في العقائد المختلفة وتقام لنفس الاغراض ، بينما تختلف في الشكل ، والزمان والمكان ، بسبب عامل الانحراف ، وليس الرشاد ، من خلال هذا ندرك ان التوحيد ووحدانية الله ، هي اول اشكال الدين على سطح الارض ، وان الانسان خلق عاقل موحدا عارفا بالله ، وعارفا بكل ما يحيط به ، وان اول ما عبده هو الله ، وفق جملة من الشعائر والطقوس الدينية المحددة ، والتي بقيت عالقة في ذهن الانسان ، رغم انحرافه ، ورغم تنكره وابتعاده او عدم قدرته على استيعاب فكرة الله ، المنزه عن الزمان والمكان ، والمختلف عن المادة ، الا انه احتفظ بفكرة العبادة والتقرب والصلاة وكل الطقوس التي تشترك فيها كل الديانات على اختلافها ، لكن جهل الانسان وانحرافه ، وركونه الى الماديات والى التبسيط والسذاجة ، والركونه الى الملموس ، جعله يقع في الشرك والتعدد ، واتخاذ كل اشكال الوسائط بينه وبين الله ، حيث ان كل المؤمنين لا يعبدون الطوطم ولا الوثن ، ولا الروح ، ولا القوى الطبيعية ، بل كل اشكال الديانات التعددية ، تتعامل مع تلك القوى والاوثان والطواطم ، على انهم وسطاء جيدون ، ومقربون من الله ، ويمكنهم التعامل معه ، ونقل انشغالاتهم اليه ، فالكهنة مثلا او الشامان ، هم وسطاء بين البشر والالهة او طوطم ، الذي هو بدوره وسيط بينهم وبين الله ، الذي لم يعد العقل البشري المنحرف قادرا على تصوره او تقبله ، كونه يتجاوز العقل ، ويتطلب التصديق بيه ، الايمان ، وليس البحث والتدقيق في ذاته وقدراته ، وهنا يمكن القول ان الطوطمية وتعدد الالهة هي فكرة متقدمة وليست متأخرة في تاريخ البشر ، اي ان الله هو اول معبود عرفه الانسان ، اما الطوطم او الاله المتعدد ، فقد عرفه في مرحلة متأخرة من حياته ، نتيجة الجهل وليس نتيجة المعرفة.
من خلال كل هذا يمكن القول: ان الاسلام يهدم النظرية الطوطوية ، ويهدم فكرة تعدد الالهة عند بداية الخليقة ، وهو يخبرنا ان الطوطمية او الوثنية وكل اشكال عبادة غير الله ، او اتخاذ وسيط بينه وبين المؤمنين والعباد ، هي افكار متأخرة ، ظهرت نتيجة انحراف الانسان عن جادة الصواب ، وتلوث التوحيد ، وابتعاده عن العقيدة الصافية التي خلق عليها ، او الفطرة التي فطر عليها الناس ، كما ان كل اشكال الديانات الوضعية ، تحمل ترسبات توحيدية ، وتشير الى انها انفجرت من جسم واحد ، واسست كيانات مستقلة لها ، لكنها احتفظت بفكرة الله ، وفكرة الطقوس والشعائر ،
كما ان النص القرآني ، يخبرنا ايضا ببداية الانحراف ، وظهور الانداد لله سبحانه وتعالى ، وهنا علينا كباحثين مسلمين اعادة النظر في التراث الغربي ، والرد عليه بدراسات اسلامية ، نابعة من المعرفة الدنية ، التي يجب ان ننظر اليها كأرقى اشكال المعرفة العلمية ، كونها تتميز بالاطلاقية ، وهي نابعة من الله ، الخالق العارف بشؤون خلقه ، وعلينا كمسلمين ان نمتلك الجرأة على نقد وهدم التراث الغربي ، المؤدلج والهادف الى تكريس التفوق الغربي على باقي الاجناس ، كما انه يتعامل مع الدين بانتقائية ، فيقبل ما يخدم أطروحاته ويرد كل ما يكشف بطلانها وتنافيها مع العقل.